كانت ما أجمل اليدين إنّهما في طرفيّ الساعدين كالزهرتين في أعلى الغصن. وهل يكتمل رونق الجسم من غير اليدين؟
كان دائماً ينظر إلى يديه بإعجاب. يرسم بهما ظلالاً معبّرة على الحائط مستفيداً من انعكاس الضوء. وهو لا ينسى إنّه بهما أمسك أوّل لعبة حصل عليها من أبيه. وكذلك أمسك بهما أوّل كتاب تعلّم فيه. وفي ليالي الشتاء الباردة بهما كان يمسك بطرف اللحاف ليدثّر رأسه.
وظلّت يداه لغزه المحيّر الجميل طيلة سني طفولته، لا يتخيّل جسمه من دونهما. وعندما صار فتياً، بهما فضّ أول غلاف رسالة من فتاة أوّل حب في حياته. وكذلك بهما مسح دموعه الأولى عند وفاة أمه.
وفي الجندية كانت يداه المرنتان أداتيه في التفوّق على رفاقه حيث تعلّم في المعهد العسكري معالجة صواعق المتفجرات وإبطال مفعول القنابل. ولهذا رُقي الى رتبة عريف ثم رقيب بسبب مهارة يديه اللتين بات بفضلهما من أهم خبراء المتفجرات في البلد، وبه يستعان في إفساد كثير من عمليات التخريب والقتل بهدف إشعال فتيل الفتن والاضطراب.
والآن، بعدما بُترت يداه خلال معالجته إحدى المتفجرات، منذ ثلاثة شهور مرّت عليه عصيبة ومثقلة بالحزن والشؤم، لم يعد اللغز المحيّر قائماً. صار جسمه كالغصن العاري من أي زهرة. وأشدّ ما يؤلمه عدم مسح دموعه التي تهطل من عينيه. ويتزايد الدمع في جريانه حين يرتمي ابنه الأصغر في حضنه على السرير المسجّن عليه فيفتقد يديه ليداعب بهما شعر هذا الطفل الناعم.
وفشلت تطمينات امرأته: لن ينقصنا شيء، فمرتبك التقاعدي يكفينا. وغداً يكبر أبناؤك ويعملون وسنكون بخير. الولد الأكبر في الخامسة عشرة. أنهى تعليمه المتوسط وهذا يكفي من التعليم. سوف يتعهد خاله الحّداد ويجعل منه معلماً في الصنعة في غضون سنتين. فلا تجزع على مستقبل أولادك يا حبيبي لكن اليدين غاليتان يا إمرأة. فيهما أخذتك بين ذراعيّ دائما. وبهما كنت أقشر البرتقال والفستق لأطفالي. هل تنسين الوردة الأولى التي نبتت في حديقتنا الصغيرة وقد قطفتها بيديّ وقدمتها لك عربون حب؟ لن أستطيع فعل ذلك من جديد ولا أعتقد بأن أي وردة ستتفتح في حديقتنا بعد الآن. فاليدان اللتان كانتا ترعيان هذه الحديقة اختفتا إلى الأبد. ومعهما اختفت بهجة العيش الهنيء. صحيح إننا كنا فقراء وينقصنا الكثير. غير إن الدنيا كانت طافحة بالبشر طالما كانت هناك يدان تداعبان أيدي الأحبة وتلتقطان الخبز والطعام من على المائدة.
كان الرقيب المبتور اليدين يحدّث نفسه وفي خلده انه يحدّث زوجته الحسيرة الرأس والدامعة العينين. وفي هذه اللحظة تحسّر على يديه. إذ أحس برغبة جارفة في كفكفة دموع هذه المرأة الكسيرة الفؤاد. وكان في قريرة نفسه يشعر انها تفضّل لو فقدت إحدى عينيها، بل يديها وبقيت له يدان.
حين جاءوا له بيدين اصطناعيتين من المعدن ليستعيد بهما على قضاء حاجته. نفر منهما. ما هذا؟ معدن مغروس في طرفي ساعديه! كان يمقت كل شيء هجين. أبى ذات مرة أن يلبّس احدى أسنانه بوعاء ذهبي. لا يمكنه اختلاط المعدن بالجسم البشري. وهو كائن إنساني وليس شيئا آليا، مثل الذي يراه في التلفاز أو يشاهده في المجلات. ليس بوسعه قبول جزء زائف في جسمه. وعلى كل حال لن تستطيع هاتان القبضتان المعدنيتان ذوتا الأصابع الغريبة المصنوعة على شكل ملاقط، أن تعوّضا عليه فقدان اليدين الغاليتين اللتين كان يربت بهما على شعر إبنه الصغير، ويرسم بهما له ظلالا معيّنة على الحائط. فما أقبح الإنسان بلا يدين يقطف بهما وردة يقدمها لحبيبته في ساعة الفرح، ويمسح دموعها في لحظات الأسى.
نوع المقال قصة قصيرة
رسالة أحدث رسالة أقدم الصفحة الرئيسية
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات:
إرسال تعليق